مع بزوغ دور الصين كقوة عظمى وتصدرها التجارة والصناعة، انتشر تأثيرها على العالم. وبعد عقود من التركيز على الداخل والعمل على التنمية، أصبحت لدى صانعي القرار في الصين رغبة حقيقية في التوسع والانتشار في الخارج. فالصين مرتبطة بعلاقات اقتصادية وثيقة مع معظم دول العالم، لكنها جزيرة منعزلة من المنظور الثقافي. لذلك سعى الصينيون لتلقين الجميع، من موظفي الشركات إلى السياح، كيفية التواصل مع الثقافات الأخرى.
ووجب على الجانب الآخر أن يبدأ في أن يمد الجسور من جانبه. يطلعنا الشيف التنفيذي لمطعم «يوان» (والذي سمي تيمنا بالعملة الصينية) بفندق أتلانتس النخلة دبي على أهم ما يجب معرفته من آداب وسلوكيات عند حضور عشاء عمل صيني رسمي.
منذ أن أصبحت الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم، قفز الاهتمام بها من قبل الأجانب إلى مستويات غير مسبوقة منذ فترة ازدهارها تحت السيطرة الأجنبية في القرن التاسع عشر. وبينما تتصدر المركز الأول عالميا في قطاع التصنيع حيث تحتوي على حوالي ربع الصناعات في العالم، تتنازع المركز الأول مع الولايات المتحدة من حيث العلاقات التجارية. فمنذ 2010 والصين تمضي في زيادة تقدمها الصناعي على الولايات المتحدة، وتعدى حجم التجارة الصينية مع الدول الأخرى نظيرتها الأمريكية بصعوبة في عام 2013 بتحقيق إجمالي صادرات وواردات تصل إلى 4.16 تريليون دولار.
فعامل القاعدة الصناعية يعزز تلك الصدارة، لكن ثقل الولايات المتحدة الدبلوماسي والثقافي لا يقارن. ينشط الصينيون الآن على الجانب الدبلوماسي، ويحرص زعيم الصين الجديد شي جين بينغ على تدعيمه بزيارات رسمية عديدة حول العالم بصحبة حرمه الأنيقة. كما أن تعلم اللغات الأجنبية وصل إلى معدلات غير مسبوقة في الصين، حتى أن العديد من الشركات الوطنية جعلت لغة العمل الرسمية هي اللغة الإنجليزية. لكن منافسة هيمنة السينما والطعام الأمريكي حول العالم أصعب بكثير من كل التحديات التي اجتازتها الصين حتى الآن، لأنه يتطلب تفاعلا من الجانب الآخر أيضا وليس مجهودا من الجانب الصيني فحسب.
ووصل عدد السائحين الصينيين الذين خرجوا من بلادهم في العام الماضي إلى ما يقرب 100 مليون شخص، مكث منهم في الفنادق الإماراتية حوالي 275 ألف فقط، لكن بنمو ملحوظ بلغ 11 % عن العام الذي سبقه. كما استضافت الإمارات مؤخرا في حدث تاريخي ، مجموعة سياحية صينية واحدة مكونة من 16.000 شخص! ووصلت تجارة الإمارات العربية المتحدة مع الصين خلال العام الماضي إلى أكثر من 21.4 مليار دولار، بارتفاع حوالي 14 % عن العام السابق. كما قامت حلبة شنجدو الصينية باستضافة أول سباق خيل عالمي يتم تنظيمه في الصين هذا الشهر، بالشراكة مع «ميدان» الإماراتية سمي «كأس شنجدو دبي الدولي». ومن المتوقع أن تستمر كل تلك الأرقام في الزيادة المضطردة، ومعها الاحتكاك الثقافي والاجتماعي بين الشعبين.
العشاء مشاركة ودور اجتماعي
عشاء العمل من كلاسيكيات التجارة الدولية، وهو يكلل مفاوضات ناجحة ويوطد العلاقات مع الشركاء بل وقد يثمر صفقات أهم من التي تتم في الاجتماعات، خاصةً مع رجال الأعمال الصينيين. فالشعب الصيني يحب الطعام ويعتبر العشاء وقتا حميما ومرحلة أساسية في التشارك والتواصل مع الآخرين. لذا يشدد جيف تان على أهمية شكل الطاولة: «يجب أن تميل الطاولة إلى الصغر أو أن تكون مربعة أو دائرية بحيث يتمكن الجميع من رؤية بعضهم البعض والحديث وحتى التلامس. ولا يفضل الصينيون الطاولة المستطيلة المتأصلة في الثقافة الغربية، حيث يتباعد الحاضرون ويصعب التواصل. كما أن الشكل المستطيل يمثل تدرجا في الأهمية، ويعتبر من يجلس على رأسها أهم الحاضرين». وبالفعل يمثل الشكل الدائري الشكل المثالي بالنسبة للموائد الصينية حيث يتساوى فيه الجميع.
فالعشاء لحظة تساوي بين الجميع سواء الأب والأبناء أو المدير والعاملين. ويرجع ذلك إلى أن عشاء العمل الصيني ما هو إلا تنويع انبثق عن العشاء العائلي المتأصل في ثقافة البلاد الريفية العتيقة. والمثال الأبرز لذلك هو عشاء رأس السنة الصينية الذي يسمى «التجمع» وليس الوجبة. فالطعام وسيلة لتعزيز روح الجماعة يتخطى فكرة التغذية.
يظهر هذا الطابع أيضا في طريقة تقديم الطعام. حيث توضع الأصناف المتنوعة في منتصف الطاولة وطبق صغير أمام كل شخص، على عكس طريقة التقديم الغربية التي يأتي فيها طبق كل شخص على حدة. ويأكل الجميع نفس الشيء، لذا يتكون العشاء الصيني من أصناف عديدة كي يتمكن الجميع من أن يجد ما يحبه من بينها.
وليس عيبا على الإطلاق أن تنحني عبر الطاولة لتعطي شيئا لمن يواجهك أو تهنئه بالمناسبة أو تأخذ شيئا تشتهيه. لكن الشيف تان يوضح أن «في العشاء الرسمي يفضل استخدام الطاولة ذات المركز الدوار للتسهيل على الضيوف الوصول إلى صنفهم المفضل دون أن يقفوا. وهناك تعديل آخر تم إدخاله إلى الموائد الرسمية، نضع الآن زوجين من عيدان الأكل بدلا من زوج واحد لكل ضيف. هكذا يستخدم العيدان الأقرب إليه للأكل والعيدان الأبعد ليلتقط الطعام من الطبق المشترك لتفادي العدوى». وتلك الظاهرة انتشرت خارج الصين في المطاعم الفاخرة مثل التي عمل فيها تان قبل أن يأتي إلى دبي وقام بتطبيقها هنا.
عيدان الأكل فن وقواعد
معظم الناس اليوم يمكنهم استخدام عيدان الأكل مع العولمة وانتشار المطاعم الأسيوية في القارات الأخرى. وإذا لم تكن تعرف كيفية استخدامها جيدا، ينصح تان أن «تطلب من جارك على الطاولة أن يعلمك لإظهار احترامك لثقافته وإيجاد موضوع للحوار، حتى وإن انتهى بك الأمر إلى طلب شوكة وسكين من النادل لعدم تمكنك من المرة الأولى. وإذا استخدمت العيدان، لا يجب وضعها على الطاولة أو في الطبق بين الأطعمة، بل تترك على القاعدة الصغيرة التي جاءت عليها حتى وإن اتسخت».
وتختلف طريقة التعامل بها على اختلاف الأطعمة وطريقة التقديم. يقول تان: «الصلصات والمرقات تلعب دورا أساسية في المطبخ الصيني. وفي الأصل كان يتم وضعها في المنتصف وتغميس الطعام فيها. لكن في العشاء الرسمي غالبا ما سيتم تقديم أواني صغيرة منها لكل ضيف كي يتمكن من ذلك، وإن لم يكن يفضل وضع الصنف في طبقك وإضافة الصلصة إليه بالملعقة».
المطبخ الصيني يقدم معظم أصنافه مقطعة في حجم القضمة الواحدة، لذا يجب أن يوضع في الفم مرة واحدة خاصةً بالنسبة للرجل. أما السيدات فتفضلن أكل كل قطعة على مراحل إذا كبر حجمها كنوع من الترفع. أما الأصناف التي تأتي مع قرص من الخبز أو ورقة خس فيجب لفها معا باستخدام العيدان ثم أكلها باليد. المثل الكلاسيكي لتلك الأصناف هو بط بكين الشهير والذي يتميز عن نظيره الأوروبي بنسبة دهون قليلة.
احترام الأطر العامة
بينما تشبه المائدة الصينية نظيرتها العربية من حيث فكرة المشاركة والمودة، لكن مواعيد الطعام تختلف تماما. ففي حين يتناول معظم العرب العشاء نحو التاسعة مساءا، يتناوله الصينيون مبكرا نحو السادسة. فإذا دعيت على العشاء فهذا يعني فور انتهاء يوم العمل. وعادةً ما تبدأ الوجبة بمعجنات محشية، تليها الشوربة، يليها عدد غير محدود من الأطباق الرئيسية ثم الشاي والحلوى. وفي ترتيب الأطباق الرئيسية، تقدم الأطباق معتدلة المذاق في البداية، ثم تقوى بالتدريج حتى تصل إلى أطباق قوية أو حارة في نهاية الوجبة. لذا يجب على من لا يفضلون الأطعمة الحارة الإكثار في بداية الوجبة. يقول الشيف تان أنه «لا يوجد مطبخ صيني، بل مطابخ صينية عديدة بحسب المنطقة الجغرافية. لكن أبرز اثنين هما مطبخ مقاطعة كانتون ومطبخ مقاطعة سيشوان. ويتميز الأول باعتدال مذاقه بينما يعرف الثاني بالبهارات الحارة. لذا يسهل تفادي الأطعمة الحارة في قائمة الطعام بطلب أطباق كانتون».
وفي ثقافة المائدة الصينية يجب إظهار شيء من النهم كي يشعر المضيف أن ما قدمه طيب. وفي ذات الوقت هناك تناقض حيث يجب ترك القليل في الطبق كنوع من الأدب والترفع. ومن الأطباق التي تحير الأجانب أطباق المعكرونة الصينية، لكن أكلها في واقع الأمر بسيط. يقول تان: «دائما ما يحاول الأجانب أن لفها حول العيدان وأكلها بشكل محافظ. لكن يجب التقاط كمية منها ببساطة ووضعها في الفم ثم الشفط. ولا يجب التردد أمام إصدار الأصوات، بل هو شيء على العكس محبب ويعني أنها طيبة». ويضيف أن «بشكل عام، يفضل في عشاء العمل الأكل بسرعة كي لا يضطر الآخرون إلى انتظارك. والطعام الصيني لكونه يأتي في قطع صغيرة يبرد بسرعة، لذا يتم تقديم كل شيء فور تجهيزه».
مبدأ المائدة الصينية أن كل شخص يأخذ ما يشاء ويخدم نفسه، لكن إذا قام مضيفك بوضع طعام في طبقك فهذه علامة صداقة كبيرة. ويجب الانتباه أيضا أن المطاعم التقليدية في الصين التي لا تستقبل كثيرا من الأجانب قد لا تفصل بين المدخنين وغير المدخنين، وقد يكون جارك يدخن بينما تأكل. ويشدد الشيف تان على رجال الأعمال العرب الذين يزورون الصين أن «ينبهوا نظرائهم مسبقا بوجوب تفادي لحم الخنزير على المائدة. فعلى عكس المطاعم الصينية في دبي، تستخدم العديد من مشتقات الخنزير في المطاعم داخل الصين ويتم خلطها بمكونات أخرى فيصعب التعرف عليها مرئيا».
والوجبة تنتهي دائما بالشاي الذي يمثل أحد ركائز الثقافة الصينية منذ آلاف السنين. ويفضل الصينيون الشاي الخفيف جدا أو منزوع المواد المنبهة بعد العشاء، بينما يفضلون الشاي الثقيل والمدخن في النهار كبديل عن القهوة. وتأتي أكواب الشاي الصينية مغطاة كي لا تبرد بينما يتحدث الضيوف. وعلى عكس آداب الشاي الغربي لا يجب الإمساك بالطبق الصغير الذي يوضع عليه الكوب. بل يمسك الكوب من أعلاه من الجانب المواجه، بحيث تخفي اليد فم الشخص بينما يشرب. ومن الآداب العامة عدم التحديق في الناس مباشرة أثناء الشرب بل خفض العينين. بهذا ينتهي عشاء عمل ناجح يساعدك على فك شفرة الثقافة الصينية.