قبل دراسة موضوع الاحسان وقيمته في القرآن الكريم، لابد ان نتعرف على معنى المفردة، فقد جاء في تفسير مفردات القرآن: « الْإِحْسَانُ»‏ يُقال على وجهين:
أحدهما: الإنعام على الغير، يُقال: أحسن إلى فلان.ehsan


و الثاني: إحسان في فعله، و ذلك إذا علم علماً حسنا، أو عمل عملاً حسنا.. الإحسان أعمّ من الإنعام.»1
فالإحسان اذاً؛ هو بذل الخير الى الغير من دون طلب مقابل من قبل المحسن، وبهذا فإن الاحسان يعني تنازل المرء عن بعض حقه للآخر.
وقد وردت لفظة الاحسان ومشتقاتها في القرآن الكريم؛ «احسان - احساناً - أحسِن - أحسنتم - أحسَنوا- أحسِنوا- تُحسنوا- محسن - محسنون - محسنين - محسنات»، اكثر من ثمان وخمسين مرة في كتاب الله عزوجل.
وفيما يلي نورد بعض الآيات القرآنية التي تحدثت عن هذه القيمة السامية:



* الأمر بالإحسان

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إيتاءِ ذِي الْقُرْبى‏ وَ يَنْهى‏ عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} (سورة النحل /90)
تصرح الآية المباركة بأمر الله سبحانه وتعالى بأمور، اولها العدل، الذي يشكل الركيزة الاساسية لبناء أي مجتمع انساني، اذ من المستحيل قيام واستمرار مجتمع من دون وجود قضاء عادل يقضي بين الناس فيما اختلفوا فيه.
ان وجود قيمة العدل يشكل ضرورة هامة، ولكن قد لا يبدو الاحسان كذلك، فما هي اهمية قيمة الاحسان في كيان المجتمع؟

يقول سماحة المرجع المدرسي في تفسير هذه الآية: «..إلا أن العدالة واقع فطري لا يختلف البشر في خطوطه العريضة، وإن اختلفوا في التفاصيل. ولكن قد يتعاسر الناس في تطبيق العدالة، فنحتاج إلى القضاء الذي لا يرضى عنه كل الخصماء، كما لا يطمئن الإنسان إلى نتائجه مائة بالمائة. ولذلك يأمر القرآن بالإحسان، الذي هو التنازل عن بعض الحقوق للآخرين، والذي يسع رحابه العدالة ويزيد..». 2

ومن هنا فإن المجتمع الذي يعيش ابناؤه على الاستئثار، مجتمع مهدد بالانهيار، اذ ان مجرد الحضور والتواجد في مكان ما دون وجود حالة من التعاون والتعارف -حسب التعبير القرآني- لا يجعل المجتمع صالحاً للبقاء والتقدم، فشرّع الله الاحسان ليخلق اجواء المحبة بين الناس، حتى أن من لا يسعه العدل (لكون الحق عليه) يشمله الامر الالهي بالاحسان اليه من قبل الآخرين . ولعمري فإن هذه اسمى مرتبة يصل اليها أي مجتمع.



* فوائد الاحسان وثماره

أ- هُدىً وَ رَحْمَةً

قال تعالى: {ألم * تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكيمِ * هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنينَ *} (سورة لقمان /1-3).

كتاب الله سبحانه نورٌ في ظلمات الارض، وتبيانٌ لكل شيء، ففيه خبر ما قبلنا وحكم ما بيننا وانباءٌ بما سيكون، ولكن ليست بصائره متاحة للجميع، ولا يهدي به الله كل من تلاه، ولا يرحم كل من جوّد آياته، بل لابد من توفر صفات في المتعاطي للقرآن الكريم ليحصل على البصيرة والهداية والرحمة، ومن هذه الصفات صفة الاحسان. لماذا؟

لان الذي يعيش حالة مناقضة للاحسان كابتزاز حقوق الآخرين ، إنما يقوم بذلك لما يعيشه من حب مفرط للذات، فلا يرى من هذا الكون الرحيب سوى نفسه، فيعبد هواه وبالتالي يبتعد عن الحق، وهكذا يكون مقياسه المصلحة لا القيم، وهدفه الذات لا الحق، وهذا يسبب كل انحراف.

ان العقل والرسالات الالهية توجه الانسان الى حقائق الخليقة، بينما توجهه شهواته و أهواؤه الى أعماق ذاته، ومن هنا فان استمرار اتباع الهوى يُطفئ شعلة العقل وهذا هو الضلال.

ومن هنا كانت صفة الاحسان الى الآخرين، ركيزة اساسية للحصول على هدى القرآن الكريم الذي هو بمثابة خارطة متكاملة للحكمة، ورحمته المتمثلة بنتائج العمل بتلك الخارطة.

ب - الحُكم والعلم

قال تعالى: {وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنين‏} (سورة يوسف /22).

وقال تعالى أيضاً: {وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى‏ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنين} (سورة القصص /14).

من الصفات الأساسية للأنبياء هي حبهم للناس واحسانهم لهم، وقد شكر الله سبحانه ذلك منهم، حتى جعل صفة الاحسان مقدمة للحُكم والعلم، أي النبوة، كما مرت الآيتان عن النبي يوسف، ومن بعده النبي موسى، عليهما السلام.

ج - الاحسان للذات

قال الله سبحانه: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها}. (سورة الإسراء /7)

يبحث الانسان عن نتيجة عمله دوماً، فلا يقوم بفعل إلا وهو ينظر الى النتائج المترتبة عليه والتي تصب في مصلحته، فما هي نتائج الاحسان؟

تبين الآية الكريمة من سورة الاسراء، ان احسان المرء يعود اليه هو، وتوضيح ذلك ؛ فيما لو كان شخصٌ جالساً في غرفة مغلقة ويرمي بكرة فان هذه الكرة ترتد اليه، كذلك فان اعمال الانسان على نفس الشاكلة، بل ان الانسان حين يقوم بالاحسان فانه يحسن لنفسه قبل ان يحسن الى الآخرين ، لانه بالاحسان، يخرج من شحّ الذات وكسب الناس هنا، وفي الآخرة له الجزاء الأوفى.

قال الله عزوجل: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ‏ إِلَّا الإِحْسَانُ﴾. (سورة الرحمن /60)

اذا زرع الانسان بذر الورد، سوف لا يحصد إلا ورداً، وليس شوكاً، هكذا اقتضت سنة الله في خلقه، وهكذا كان نتائج اعمال الانسان، ان زرع خيراً فسوف يجني الخير، ولا تقتصر هذه السنة على المؤمنين فقط، بل تشمل غيرهم ايضاً، عن علي بن سالم أنه قال: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام يَقُولُ:

«آيَةٌ فِي كِتَابِ الله مُسَجَّلَةٌ، قُلْتُ: مَا هِيَ؟. قَالَ عليه السلام: قَوْلُ الله تَعَالَى‏: ﴿هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ‏﴾. جَرَتْ فِي الكَافِرِ وَالمُؤْمِنِ وَالبَرِّ وَالفَاجِرِ، وَمَنْ صُنِعَ إِلَيْهِ مَعْرُوفٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَافِئَ بِهِ، وَلَيْسَ المُكَافَاةَ أَنْ تَصْنَعَ كَمَا صُنِعَ حَتَّى تُرْبِيَ، فَإِنْ صَنَعْتَ كَمَا صُنِعَ كَانَ لَهُ الفَضْلُ بِالِابْتِدَاءِ». 3

و مضافاً الى ذلك فإن هناك العشرات من النصوص الشرعية عن اهل البيت، عليهم السلام، تبيّن ثمار الاحسان، كما قال أمير المؤمنين، عليه السلام : «مَعَ الْإِحْسَانِ تَكُونُ الرِّفْعَةُ» 4، وقال، عليه السلام، أيضاً: « مَنْ كَثُرَ إِحْسَانُهُ أَحَبَّهُ إِخْوَانُه‏». 5

د - حُبّ الله

قال تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}. (سورة البقرة /195)

ان الله قد فرض على كل واحد من المسلمين حقاً معلوماً في ماله للفقراء والمساكين و..، إلا ان هذه الآية تذكر الامر الالهي بالانفاق في سبيله بما سوى المفروض. فعلى المؤمن ان يقدم من ماله ليتجاوز شُحّ ذاته وضيق أفقه دون ان تصل مرتبة العطاء الى القاء النفس الى التهلكة، وهذا هو الاحسان المطلوب، وبذلك يكون محبوباً عند الله سبحانه.

اسمى غاية العبد ان يصل الى مرتبة يحبه الله، واذا أحبه الله، أحبه اولياؤه الصالحون، واذا أحبه الله كانت النتيجة؛ النعيم الخالد. قال تعالى: {فَأَثَابَهُمْ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِين}. (سورة المائدة /85)

وقال تعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ}. (سورة الزمر /34)

من يخرج من سجن ذاته ويتجاوز عن شح نفسه، سوف يحب للناس ما يحبه لنفسه، ويسعى في اشباع حاجاتهم قبل حاجته، الفعل الذي يجعله محبوباً لله سبحانه وتعالى، ومستحقاً لافضل الجزاء.

كانت هذه بعض الثمار والنتائج للاحسان الى الآخرين ، ولو كانت احداها وحدها، لكانت عظيمة، كيف وهي تجتمع مع غيرها من الفوائد الكبيرة.